ليتني كنت من عالم آخر أو أسكن في بلدة أخرى، لا تقذف كل من لم يحالفها الحظ ولم يكتب لها النصيب في الزواج بنار متمثلة في حروف لا توصف إلا بالقسوة، وناقصة من دون رجل يشاركها الحياة، وحتى المطلقة التي آثرت كرامتها على حياة أشبه بالجحيم السرمدي.
أنا سما لم أتزوج حتى الآن لم يأذن الله لي بزيجة ألقى فيها راحة بالي وسعادتي، وأجد في إنسان معنى السند والقوامة، هو نصيب ورزق لم يكن من نصيبي، لكني وجدت المؤلم من مواقف الناس تجاهي، الكثيرات من صديقاتي يحجبن أزواجهن عني، نعم آنسة، وبرغم ذلك لدي من المبادئ والقيم الأخلاقية والإنسانية ما يحدني عن أن أنظر إلى زوج صديقتي، أو أَحِل لنفسي ما ليس لي، ليتهم في وعي لذلك، كدت أن أجن، تتبدل قلوبهن لمجرد أنني لسة زوجة وأم، وحتى حال أقاربي لا يختلف كثيرًا، يعاملونني أنني ناقصة، محرومة، حتى في عملي من يأتيها لخطبتها لا تعلمني شيئًا وسمعتها بأذني "قد تصيبني بالعين"، ولكن ربي رحيم ادخرت من الزمن بضعة صديقات هم الغاليات وكان أعزهم على قلبي مودة.
سما: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، مودة يا حبيبتي عاملة إيه؟
مودة: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، الحمد لله يا حبيبتي وأنت؟
سما: الحمد لله، الحمد لله على نعمة وجودك في حياتي، لكن طول الوقت باسأل نفسي اشمعنى أنت اللي بتعامليني كده وقادرة تفهميني بالرغم من إنك متجوزة، وكمان طول الوقت بتعملي خروجات مع زوجك وأصحابكم وتاخديني معاكم؟
ليه كل الناس اللي حبيتها بعدت مجرد ما ارتبطت؟
ليه حطوني قدام نفسي في أسئلة عمرها ما كانت تخطر لي على بال ؟
أنا أخلاقي سيئة؟ طب كام مرة أخدت خطيب واحدة صحبتي ولا جوزها؟
ظلت سما تتحدث وصوتها مختنق من دموع حبيسة لسنوات عدة، وهدأتها صديقتها المقربة مودة وأردفت
مودة: مش كل الناس قلوبها صافية يا حبيبتي، مش لازم كلهم يحبوك، خليك بس مع الناس اللي بتحبك من قلبها ومخلصين ليك، ابعدي عن كل حاجة تأذيك، وداعبتها قائلة: أنا يعني مش كفاية ومش بس كده وليك كمان خمسة ستة ده خير وبركة، احمدي ربنا يا سما إنه بيكشف لك اللي جواهم من بدري.
وكانت حروف مودة الأنيقة بلسمًا شافيًا على قلب سما وكان كلامها مقنعًا.
ثم التفتت كل منهما إلى عملها، فقد كانتا تراعيان الله في كل ما تكتسباه من المال في إنجاز كل ما يطلب منهما.
وأتى وقت الغداء وتناولا وجبة سريعة لاستكمال العمل، حتى آن وقت انتهاء اليوم في العمل.
وكان مديرهما رجل أنيق وجذاب، وكان يعامل موظفينه في قمة الرقي، وطلب منهما أن تأتيا في وقت مبكر من اليوم التالي لإنجاز مهام وذلك لثقته في آدائهما، ولم يبين خبايا نيته لأي منهما.
ودعت سما زميلتها وصديقتها الوفية وتوجهت إلى وحدتها فقد ولدت وحيدة الأم والأب، وتركاها والداها في سن العشرون، وها هي الآن أشرفت على سن الثلاثون من عمرها أي مضى على فراقها لهما عشر سنوات.
وبعد تناولها وجبة خفيفة للعشاء فقد كانت حريصة على عدم زيادة وزنها، انتقت كتابًا من مكتبها لتقرأه، وقاطعها جرس الهاتف المحمول، ورأت رقم مديرها الأنيق، تركت الكتاب سريعًا، والتقطت تليفونها المحمول.
سما: ألو السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إيهاب: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، آنسة سما مساء الخير
سما: مساء النور يا فندم، تحت أمرك.
إيهاب: عاملة إيه؟ يارب تكوني بخير
سما: الحمد لله يا فندم طول ما حضرتك بخير، وأردفت سما: في أي مشكلة في الشغل يا فندم؟
إيهاب: رد بتردد وسؤال يطرح نفسه في خياله طب أقولها باكلمها ليه؟
سما واسمحي لي أقولك سما من غير ألقاب، محتاج حد يمسك النشاط الاجتماعي والثقافي في الشغل وبأكد عليك في انك تكوني موجودة الصبح في الشغل.
سما: طبعًا يا فندم حضرتك أخويا الكبير، واحنا من أول ما جينا الشغل كل حاجة جميلة وكل معاملة طيبة شفناها منك، بالنسبة للنشاط الثقافي ممكن نعمل مكتبة وكل شهر نضيف فيها كتب جديدة ومفيدة حتى كمان في تطوير المؤسسة إيه رأي حضرتك؟
والنشاط الاجتماعي بقا يعني نعمل إيه؟
إيهاب: معقول يا سما اللي أعرفه إنك كنت كلية خدمة اجتماعية وقولت إنت أجدر واحدة بالمهمة دي، بما إننا في الصيف والناس كلها زهقانة من الحر هننظم رحلات على البحر وممكن رحلات اليوم الواحد في مكان زي دار أو فندق؟
فأنت هاتيجي الصبح بدري عشان تشوفي الأماكن والحجز وكل حاجة وعلى فكرة هنفاجيء بيها الموظفين.
سما: ردت سما بحماس والله يا فندم فكرة عظيمة جدا وكلنا محتاجين للتغيير.
إيهاب: رد بحزن يا فندم!
سما ما هو مش معقول يا سما ابقى أنا بناديك باسمك وانت تقولي يا فندم!!
سما والله أنا مش كبير للدرجة دي في السن، أنت عندك كام سنة؟
سما: ردت في خجل ليه بس الإحراج ده؟ ما البيانات كلها مع حضرتك يا فندم.
إيهاب: رد بعصبية سلام يا سما ما فيش فايدة وأغلق الهاتف، وسما لازالت تقول: الو الو الو ولم تفهم سر عصبيته الزائدة.
واتصلت سما بضحى صديقتها منذ الطفولة لأنها تخجل أن تتحدث في هذا الوقت إلى زميلتها وصديقتها في العمل لأنها تعي أنها زوجة وأم ولديها مهام وليس من اللائق فعل ذلك.
سما: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ضحى عاملة إيه؟ أكيد صاحية عارفة انك بتسهري شوية، حصلت حاجة غريبة جدا أنا مش فاهماها لحد الوقت ده.
ضحى: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، لأ ما تقوليش أكيد حاجة حلوة من اللي مستنياها ليك احكي بسرعة قالتها ضحى في مرح وخفة وحماس.
سما: اهدي شوية خليني أتكلم، ولو سمحت ما تعلقيش، وأردفت الحديث: أستاذ إيهاب مديري قبل ما نمشي من الشغل أنا ومودة طلب مننا ننزل الصبح بدري عشان في شغل طلبه مننا، وبعدين لقيته بيكلمني بعد ما رجعت البيت، ولقيته متردد كده في الكلام كأنه مش عارف هو كلمني ليه، وطلب مني إنه عايز حد مسئول عن النشاط الاجتماعي والثقافي في الشغل، وقبل كل ده طلب مني يكلمني باسمي من غير ألقاب، بس طبعاً أنا قولتله يا فندم وحضرتك لقيته اتعصب بعد ما اقترحت عليه حاجات واقترح عليا تجديد في جو الشغل.
ضحى: جتك خيبة بالله تتوكسي، طب ده كلام ناس عاقلة، يا حبيبتي ليه إيه المشكلة لما تناديه باسمه، هو انت هتدلعي عليه مثلًا؟ ولا هترتكبي معصية؟
ده مديرك وراجل محترم وملتزم مش يمكن تكون بداية لحاجة كويسة؟
سما: ما تبطلي طريقتك دي؟ ما تعودتش أشيل الألقاب في العمل، وبعدين يقوم يرد بعصبية سلام يا سما ما فيش فايدة ويقفل السكة في وشي؟
ده مبرر أصلًا؟
ضحى: ما هو الراجل بيقولك إنه عادي يعني تناديه باسمه وانت تقوليله يا فندم، هو شكله بيلمح بس انت طوبة.
سما: لا ما اعتقدش إن يكون بيلمح، يا حبيبتي هو بيتعامل بمنتهى الاحترام والأدب، وعمره ما بين لي أي حاجة لا لا لا لا لا مستحيل.
ضحى: ياريت متستعجليش وتقولي مستحيل وهيبان مع الوقت، روحي نامي بقا عشان أنا نعست، وعشان تروحي شغلك الصبح مشرقة كده وجميلة، ولو سمحت البسي طقم حلو مادام هاتتعاملي مع الناس، وحطي ميك آب خفيف كده عايزاه يشوف سما تانية.
في صباح اليوم التالي أتت سما مشرقة ترتدي فستان يزينه وردات صغيرة جميلة، وقد خجلت أن تضع مساحيق التجميل، واكتفت ببعض الاهتمام ببشرتها حتى بدت أصغر من عمرها، ورآها مديرها ونظر إليها في تمعن وإعجاب، وقال وهو يشيح بوجهه عنها: صباح الخير يا سما، أنا آسف جدا على أسلوبي معاك امبارح وما قصدتش أضايقك وأكون قليل الذوق معاك، تسمحي تقبلي مني الوردة دي والشيكولاتة اعتذار مش أكتر.
سما: صباح النور يا.... وترددت قليلًا إلى أن قالت: يا إيهاب، ما فيش حاجة حصل خير، ميرسي جدًا قد إيه جميلة وذوقك راقي كمان أنا بحب الشيكولاتة جدًا.
إيهاب: لم يصدق ما سمعه، وقال بفرح وخفة: شوفت بقا سهلة إزاي، وبرضه الاحترام متبادل.
وتحدث معها في بعض الأمور إلى أن أتت مودة هي الأخرى واستكملوا عرض المقترحات والتوصيات قبيل أن يأتي زملائهم في العمل.
كان إيهاب ظروف حياته مشابهة لحياة سما الفارغة قليلًا فقد كان يمتلك من الدنيا صديق واحد يدعى فارس، هو بئر أسراره وعكازه وسنده، وبعد فترة قليلة تفاجيء الموظفين بتنظيم رحلات ليوم واحد ورحلات أسبوعية وأظهروا امتنانهم لمديرهم، وأظهرت سما ومودة براعتهما في إدارة الأنشطة الجديدة بالمؤسسة، وكافئهما مديرهما بمبلغ من المال غير راتبهما.
لكن سما رفضت أن تذهب لهذه الرحلات لخجلها الشديد، ولم يجد إيهاب بدًا من وجود وسيط لإقناع سما بالذهاب إلى الرحلة، وبالفعل اقتنعت، وذهبت، كان الجو لطيفًا جدًا على شاطيء البحر، طعام شهي وألعاب الشاطيء، وبعد ذلك كل راح إلى جهة مع زوجته، أو بمفرده ولم يتبق سوى سما ومديرها الأنيق، ولأول مرة يتجاذبا أطراف الحديث عن أشياء حياتية غير العمل، كانا يتحدثان برفق ولين ومودة، وفجأة أحس إيهاب أنه وجد ضالته في سما، ووضع أمام عينها هدية مغلفة بشكل أنيق، وطلب منها أن تفتحها ووضع بجانبها زهر الياسمين، وحينما سألته: إيه دي يا إيهاب؟
إيهاب: هدية مني ليك عن النجاح المبهر اللي حققتيه الفترة اللي فاتت.
سما: طب ما أنا أخدت مكافأة مالية، وبعدين انت كمان اديتنا أنا ومودة درع.
إيهاب: هدية تانية وأكيد انت مش هتكسفيني وتقبليها.
سما: فتحت سما العلبة بتردد؛ فوجدت علبة قطيفة كتب عليها" خبئك الله لي"
في ذلك الوقت كانت هناك مشاعر مختلطة فقد كانت تضحك وتبكي في ذات اللحظة، ولم يعي إيهاب كيف عليه أن يفعل لكنه أردف، أنت اللي ممكن أكمل معاها حياتي وأنا مطمن، أنت اللي أبقى واثق فيها لو في وسط ميت راجل إنها مستحيل تعمل خطيئة، أنت اللي أستئمنها على شرفي وعرضي ومالي، فتحت سما العلبة فوجدت فيها خاتم خطبة، ووجدت مودة في هذه اللحظة وعينها باكية فرحًا لعوض صديقتها من كل ما آلمها مشيرة لها بأن تقبل، وأومأت رأسها مجيبة بنعم، وأردفت سما وأنا مش هاقبل أكمل إلا معاك يا إيهاب، وبكى هو الآخر فرحًا وألبسها خاتم الخطبة أمام زملائها.
بقلم/ أسماء صلاح " قلب مزهر"