"وإني لراضٍ بالقضاء وبِما تشاء وعندي يقين أن لُطفك شاملي وعوضك آتٍ."
ظللت أردد تلك الكلمات وأنا أنظر لغروب شمس اليوم الذي غرب معها حلمي؛ لعل الله يعوضني في يومًا ما ويراضي قلبي، وكانت أمي بجوار ترسل لي الكلمات؛ لتهدأتي وتخفف ألمي لما فعله أخي معي،
كيف له يا أمي بأن يُحطم حلمي؟ ويُلقي بِه في سلة المهملات، ألم يشعر بألمي قط! بربكِ قولي لي شيئًا يا أمي،
'أمي في صمت وهدوء تحاول أن تجد ما يهون عليا ما أشعر"
حبيبتي وطفلتي الصغيرة أخيكِ قدم لكِ في التمريض؛ حُبًا فيكِ؛ التمريض له مستقبل أفضل من الثانوية العامة ؛ فحين تتخرجينَ من التمريض ستقوم الدولة بتوظيفك مُباشرةٍ؛ ليس مشاهدة الثانوية والجامعة فحين تتخرجينَ سوف تنتظري الكثير من الوقت لكي تتوظفي، إذا وجدت وظيفة لكِ
أمي بتنهيدة حب وعتب: لا تحزني صغيرتي فأمامكِ مستقبل باهر، قولت لها حسنًا أمي سأكفكف دمعي وأنهض من ركام حلمٍ مضى ويا هلا بحلمٍ قدره الله لنا.
نهضت مسرعة لغرفتي أصرخ آهاتي التي كتمتها بصدري؛ لكي لا أحزن أمي أكثر؛ فماذا كانت ستصنع مع أخي الذي قدم لي أوراقي في التمريض العسكري بدلًا من الثانوية العامة ودخولي كلية الهندسة وأصبح مهندسة، وهى المهنة التي طالما حَلُمت بِها. رفعت يدي وقولت يا الله عوضني عن حلمٍ طال انتظاره ولم يأتي، كافأني على صبري يا حليم يا الله. وذهبت إلى سريري لغفو بضع دقائق واريح جسدي المُتعب من عمل المنزل.
بعد مرور وقتٍ بسيط دق باب غُرفتي.... وإذ أخي يقف أمامي يُحدثني ويقول لي: كيف حالك حبيبتي؟ لم آراكِ تحضري العسل مع أمي، وحين سألت عنكِ
قالت أمي: إنكِ مُتعبة قليلًا
هل أنتِ بخير الآن؟ وبماذا تشعرين؟
جلست انظر إليه دون كلمات تنطق، أي كلام يجعله يشعر بما أشعر، هل هذا الحنان يخفف ثقل ما أجد، لا وربي ...
ما زال الصمت بيننا سيد المكان
قطع شرودي وحيرتي صوت أمي تنادي على أخي، فقال لي: لا أحب أن آراكِ بهذا العبوس يا مجنونة، انهضى وحقيقي حلمك وذاتك في مهنة التمريض والتحقي بكلية التمريض، فبالله، سيصبح لكِ شأنًا باهر في يومٍ من الإيام ... وما زالت كلماتي تقف في حلقي أجد صعوبة في نطقها، لا أقدر ... أريد أن أصرخ في وجهه ..لا أستطيع كيف لي أن أوجه أخي؟ وأن يعلو صوتي عليه... نزلت دموعي تجري كسيل من المطر تخفف عني ما بي
ونظرت لأخي وإذ بلساني يستطيع الكلام فقلت: لا بأس أخي سأحقق حلمكم بأن أصبح أعمل لدى وزارة الصحة مثلك ومثل أختي وزوج أختي ووقف لساني مرة أخرى لا يجد من الكلمات او الحروف ما يُنفس عني...
"نهض أخي بعدما فَهِمَ من نظراتي ودموعي أنه أخطاء بحقي ولكن قبل خروجه وضع على رأسي قُبلة حانية وقال: أخترت لكِ ما أجد بخبرتي المتواضعة أنه صواب"...
ذهب أخي وتركني أحضر شنطة سفري لكي اذهب للدراسة من الاسبوع المُقبل
وجدت وأنا أُرتب أشيائي دفتري
الذي كُتب عليه
" المهندسة نور" وفي يوم سيخرج ذلك الحلم للنور.
نعم، قد كان هذا شعاري دومًا...والآن تحطم، فخونت على نفس بإن ذلك قدر الله وقضائه.
خرجت للعشاء مع أمي التي كانت تنتظرني، وجدت أبي قد أتي وشعر بحزني فناداني وقال:
طفلتي كبرت الآن وستذهب للدراسة كوني بخير ولا تحزني وهذا الأمر أفضل صدقي أباكِ صغيرتي الحلوة
قلت له: حسنًا يا أبي سأقاوم كل أسباب الفشل وتنهض من الركام كعادتي سأجعلك تفتخري بي كما كنت..... صدقني لن أخذلك.
تناولت الطعام سريعًا وذهب نحو غرفتي وقفت أمام مرايتي أصرخ بصمت وأكتم حزني فلن يشعر بِه غيري.. وهربت لنومي لعل أجد في حلمًا ما يُسر قلبي.
وفي الصالة تجلس أمي وأبي يتحدثون بشأن ما فعله أخي، وهل بالفعل هم على صواب؟
فقالت أمي لا تحزن يا حاج فنور يتمشى كل ذلك بعد إيام قليلة يكفي دراسة تمريض ستنسيها اسمها وتشغلها عن كل شيء
فقال أبي: اتمنى أن تنسى وتتخطى وأن نكون على صوب بالفعل
فقالت أمي: بإذن الله يا حاج
هيا لتنام فأنت مُرهق من العمل
"نام الجميع ونام جسدي ولكن فكري لم ينم تلك الليلة"
أشرقت الشمس وأشرق قلبي معها بحلمٍ جديد، وكأن الله استجاب دعائي، ودعت عائلتي وذهب لمدرسة التمريض العسكري .
ومن هُنا تغيرت حياتي وفكري ونضجي ...فالتمريض مهنة شيقة وجميلة أصعب ما فيها دراستها النظرية.. اندمجت في الدراسة وكل يوم يمر عليَّ انضج فكريًا وثقافيًا واتعلم ما يفيدني أكثر وأكثر...لمدة ستة أشهر دراسة ما بين النظري والعلمي والامتحانات وكل اختبار بفضل الله اجتازه وأفرح لذلك فرحًا شديدًا وبعد مُدة وأنا في دراستي ابتدأ اسمي ينتشر بين الطلبة؛ لذكائي وشطارتي في مهنة التمريض، وحين تأتي طلبة أكبر مني يمدحونني أسعد جدًا ويجعلني أبذل ما أجد لأحقق الأمل المنشود في أن أصبح ممرضة مرموقة. وفي يوم عرضت عليَّ دكتورة لي منحة لمدة ثلاثة شهور وفي هذه المنحة سيكون المنهج كتلخيص لسنوات كثيرة في الطب وكان من شروط المنحة أن الطالب يتمتع بالذكاء والفهم السريع..
فقالت لي الدكتورة هبة: يا نور اخترتك لتلك المنحة فلم أجد أحسن منكِ في ستة أشهر فقط وصلتي لمرحلة عظيمة... فشكرتها وقبلت المنحة وسافرت للخارج لدراستها وفي أثناء الدراسة....
ظهر مرض خطير يجتاح العالم لم يكن في الحسبان أبدًا، مرض زعزع العالم وزلزلها ..وتتهيأ الآن لِشَنِّ هجوم شَرِس لمعركةِ الحرب ذات المَكْر المُباشِر. بين فيروس غريب وبشر لو استسلموا لشراسة الحرب؛ سيُهلكون بيسرٍ شديد.
"اشتدت التحذيرات بخصوص المرض وفتحت المعامل للاختبارات وتجهزت لصد ذالك المرض المستعصي عنا نحن البشر
وهُنا تنبهر الأعلام لدور الممرض والطبيب
"وظل الإعلام يمدح في الأطباء والممرضين الذين يقفون حاجز سد بينهم وبين هذا المرض اللعين بكل قوة وحزم"
كان أبي وأمي في هذا الوقت يفتخرون بي كثيرًا فأنا في منحة خارج مصر ومع أفضل الأطباء لإجراء أختبارات سريرية لعدة مرضى تفشى بِهم المرض ...وفي نفس الوقت يشعرون بالقلق والتوتر لأجلي خوفًا من مكروة يُصيبني ....
فكنت بين الحين واآخر اطمنهم إني بخير ... وأقول لهم على بعض الإجراءات اللازمة لتجنب الإصابة من مرض غريب وغير واضح معالمه، غير أنه فتاك يبتلع كل شيء بداخله..
وبعد عدة إجراءات استمر لمدة من الزمن استطعنا أن نجد بعض العقاقير التي تساعد المريض على تخطي ما بِه بجوار بعض أدوية المناعة والتغذية الصحيحة والجلوس في الشمس والتهوية لمكان المريض ..
وهُنا فرح العالم بأسره لنتخطى مرحة صعبة عاشها العالم وهو يكتم أنفاسه خوفًا من مستقبل مجهول ... رجعت إلى القاهرة بعد ما فتح الطيران لنا نحن الأطباء والممرضين أبوابه لكي نعود بالحياة لهم ...
جاءني اتصال من أبي بأن المرض تفشى في قريتي الحبيبة
فحزنت لذالك بشدة فوجدتني الطبيبة أبكي خوفًا على أبي وأمي وأخي وأختي وزوجها وأطفالها وقريتي بأكملها واصدقائي، أخشى عليهم المرض فأنا أعرف معاناته، قالت لي الطبيبة: خير يا نور ماذا بكِ قولت لها: ما حدث في قريتي قالت لي سنعطيكِ دواءًا يكفي الجميع وسنقوم ببعض الإجراءات معكِ لكي ننقذهم يا بطلة لا تخافي فنحن معًا.
فرحت لهذا الخبر، ونهضت مسرعة أدلهم على قريتي .. وعسكرنا في مدخل القرية وتجهز الجميع واستعدوا لأنقاذ قريتي
وقالوا يجب على واحد منا الدخول إلى القرية؛ لمعرفة ما مدى خطورة الوضع
فقولت لهم سأقوم أنا بذالك وبالفعل استعديت جيدًا وارتديت
ملابسي وقفازاتي وقناعي ودخلت قريتي وبدأت أسير بين شوارعها لأجدها خالية من المارة لا أحد... تشعر وكأن الموت خيم بها وليست كورونا لم استطع الوقوف مكاني ...صرت كالمجنونه أبحث عن أهلي وأصدقائي وجيراني لا أحد!
أين الجميع؟
تذكرت بأن في قريتي ساحة كُنا نلعب فيها؛ فذهبت مسرعة نحوها فصدمت وبكيت ووقعت على الأرض من هول ما أجد وجدت بعض الجثث مُلقاه على الطريق والبعض الأخر مغشيًا عليه والبعض افترش الأرض يداوي زوجته وأولاده لا يأبى لنفسه، وغيرهم من الحالات الخطيرة ... اتصلت بالفريق وقلت لهم ما رأيت فأرسلوا لي الإمدادات الطبية الأزمة وجاء وبدأت أساعد الجميع وكونت فريق متطوع من أهل قريتي؛ لمساعدتي وبعد فترة دخل الفريق وبدأوا بإعطاء الجميع اللقاح والأدوية المناسبة وبعد أسبوعين من مُعسكرنا في القرية والتخلص من الجثث بطريقة صحيحة ونقل المرضى في مكان والاصحاء في مكان وتعليمهم كيفية التعامل فيما بينهم؛ نجحنا في مواجهة كورونا اللعين....
صفق لي الجميع حين أعلن الفريق بأن القرية خالية من كورونا؛ فقام أهل قريتي بعمل ممر شرفي لي وأرسلوا لي الورود وبطاقات من الشكر والتقدير وكرمني بعد فترة المحافظ لدوري في حماية أهل قريتي وهُنا شعرت بكلمات أهل حين قالوا سيعوصكِ الله خيرًا ..
أدركت بأن تلك الدعوات لم تكن ترسل هباءًا بل الله يُخبئها لتأتيني أجمل، بالرحمة ربي بِي منعني حلمٍ وأرسل لي أحلامٍ،
وهُنا تذوقت طعم دموع الفرح والفخر..وجاءني أخي وهو يرقص من الفرح ويقول عوضكِ الله يا أختي كما قولت لكِ ... حضنته بشدة وقولت له شكرًا يا أخي؛ فلولا أختيارك لما وصلت لكل هذه الأفراح والمنح والعطايا..
قال لي: أنها عطايا وقدر الله فأشكري الله....فرفعت يدي إلى الله وقولت اللهم أغفر لي تقصير نحو شكركَ وعجزي عند قضاءك وأكتب لي الصلاح والفلاح والرضا الدائم بكل قضاء تكتبه لي أو علي.
#أسماء إبراهيم"هُنهَ"
لم أقرأ في حياتي كلها قصه بهذا الجمال في اختيار الكلمات والتعبير عن المشاعر
ردحذفحاجه تحفة كده وإبداع بجد من القلب
ردحذفجميلة جدا وجذابة
ردحذف