الهروب من اللاشيء"

 " الهروب من اللاشيء"



نجهل الطريق وحينها تأخذنا الحياة لطرق لا تهواها أقدامنا، فنتوه معها، ونحيد عن طريقنا، وقد نكون على الطريق المستقيم دون دراية منا، إنها أقدار كُتبت وجفت الصحف، ورفع القلم، وما علينا سوىٰ السعي والدعاء؛ لعلنا في يومٍ ما نصل لجهة ما، تكمن فيها الروح بحبٍ وسلام، لعلنا بعد هذا الهروب من اللاشيء ينتهي، ونجد بعد هذا الضباب ما يُهدئ من أرواحنا المتعبة، ونترك أثرنا في طرقٍ يصعب على غيرنا حذوها، وهُنا تكمن قصتي معكم، 

أنا ملاك أعشق المغامرة، والنصر المظلوم، لا أعيش إلا لهدفٍ، أقاوم براثن الجهل بنور المعرفة، وقصتي ليست كأي قصةٍ قرأتموها أو سمعتم عنها، إنها قصة تشبه قصص الأساطير، فأنا أعيش في واحة أبي قائدها، يسيطر على الواحة مجموعة من السحرة، تخيف الناس، وتفرض علينا إتاوه؛ لكي تتركنا ولا تؤذينا، فتدهور حال الواحة، وأصبح الجميع يشكو همه لأبي، فطلب أبي اجتماعًا لأهل الواحة، لعلنا نجد لذلك البلاء دواء يعيد واحتنا لسيرتها الأولى.


وفي إحدى الليالي هُنا على أرضنا المسحورة التي تعبث بنا من وقتٍ لآخر، ونحن لا ندري ماذا نفعل؟ 

حتى نقاوم هذا السحر الشيطاني وتعود تلك الأراضي اللعينة لزهوها مرة أخرى، وفي يوم من الأيام اجتمع أبي بسكان الواحة، وقال لهم:_ ماذا نفعل؟

وهل نستطيع الصمود أكثر في مواجهة قوى الشر؟

فأجابوه:_ بأن كل حيلهم باءت بالفشل.

وهُنا عم الصمت، وتدخلت أنا في حديثهم، 

فنظر أبي إلي، وهو يرمقني بنظرة بحدة بأن أصمت وأخرج من مجلس الكبار، فنظرت لأبي وقلت له: لا، لن أصمت يا أبي، فأنا أيضًا أريد أن أشارك معكم في قرار واحتنا؛ حتى ننقذ الكبار والصغار من شر السحر والسحرة. 

وهُنا أدرك أبي مدى اصراري على إبداء رأيي نجاة قضية الواحة، فقال أبي: تكلمي. 

قلت له: سنواتٍ مضت لا نفعل أي شيء يا أبي سوىٰ الهروب، والآن جاء دور المواجهة. 

فقال:_ كيف يا ابنتي العزيزة؟ 

قلت له: لأبدأ بالاستعانة بالله أولًا، ثم بعض الحيل والمكر؛ حتى نواجه ذلك السحر الأسود المسيطر على واحتنا.

فرد أبي قائلًا:_ ونعم بالله يا ابنتي، وأي حيل تفيد مع أناس يستخدمون كل قوة الشر والبطش والسحر؟! 

قلت:_ نستخدم العقل والحكمة، ونسبقهم خطوة، ونجعل منا الفعل، وليس رد فعل. 

واسترسلت في الحديث فقلت: يا أبي كل ما عليكَ فعله أنتَ وكبار واحتنا حماية أطفالنا ونسائنا في مكانٍ ما؛ حتى لا يصيبهم أذى. 

فقال أبي: حسنًا يا فتاتي، ثم ماذا؟

قلت:_ سأقوم أنا وكل فتيات وشباب واحتنا بشن هجمات متتالية على وكر هؤلاء المتربصين بنا.

*فنادىٰ أبي في المجلس، يا قوم ماذا قُلتم في قول ابنتي؟*


فأجابوا بالموافقة والمباركة؛ لعل الله يسدد خطانا، ونحظىٰ بالنصر العظيم.



* وانفض المجلس في تلك الليلة، وذهبت لغرفتي، وانا أُعاتب نفسي على تدخلي في مجلس الكبار، وفي نفس الوقت أشجعها على هذا العمل البطولي، وأرجع للومها مرة أخرى، وهكذا انقضت تلك الليلة، لم تغمض لعيني جفن، ولكن في تلك الليلة لجأت إلى الله، فناديت فقلت: يا إلهي سدد خطاي، ووفقني؛ كي أنقذ قومي من بطش السحر، وبكيت حتى فاض الدمع مني.


 وأشرقت الشمس، فأشرق داخلي نورًا يدل قلبي على ما أفعل، ويشدد من أزري، ويخفي الخوف من داخلي، فنهضت مسرعة نحو نادي واحتنا حيث موعدي مع شباب الواحة، واستمر الحديث بيني وبين نغم صديقتي منذ الطفولة

وليالي جارتي وابنة عمي وخالد أخي صديقتي نغم وأحمد ابن عمي، واتفقنا على مواجهة هذا البطش، وتعاهدنا على مساندة بعضنا البعض نحن الخمسة في حماية الواحة.

فقالت نغم: كيف الحال يا شباب؟

فأجاب أحمد وليالي:_ بأفضل حال يا نغم. 

فنظر خالد بشغفٍ نحوي وقال:_ وأنتِ يا ملاك، كيف حالكِ؟

فقلت له: بخير يا خالد، وأنت؟ 

قال:_ الآن وأنا أنظر إليكِ صرتُ بخير.

فابتسمت وقلت له:_ جعلك الله بخيرٍ دائم يا خالد، ولكن لا تنسىٰ الهدف من اجتماعنا. 

فقال:_ لا، لا تقلقي، ولكن أردت أن أطمن عليكِ فقط.

قُلت:_ حسنًا


* وأتى أحمد بخريطة الواحة، ونغم أتت بالأسلحة والذخيرة، وليالي أتت بالمؤن من الأكل، والشرب، والإسعافات الأولية، ومثل هذه الأمور، وخالد قام بعمل عربة تستطيع الصمود والسير في طرق واحتنا الوعرة، ونظر أحمد إليه مشاغبًا:_ ماذا أحضرتِ لهذه الرحلة يا ملاك؟ 

قلت:_ انتظر أيها المشاكس فأنا أحضرت بعض التعويذات السحرية؛ كي تنفعنا، وأيضًا أعددت ماءً حين يشرب منه المصاب يتعافىٰ في الحال، والكثير من الأسهم المسمومة، وليزر يصيب العيون بأذى بالغ لوقتٍ محدد، وغيرها من الأشياء الهامة التي تفيدنا مع محاربة قومٍ تحصنوا بالفكر الشيطاني؛ فأصبحوا كسحرة فرعون.


فنظروا لي مُندهشين لما صنعت، وقاموا بالتصفيقٍ لي ومدحي على فعلي.


*فقلت لهم اليوم يوم الاستعداد، وغدًا يوم النصر والمباركة والتصفيق، أجلوا هذا لغدٍ يا رفاق.

نظر خالد لي وقال: سوف أنصرف إلى حاكم الواحة، وأتحدث معه قبل الانطلاق، انتظروني.


ذهب خالد مسرعًا نحو حاكم الواحة وهو " أبي"، وأنا أنظر وأحادث نفسي ماذا يريد خالد من أبي على انفراد؟ 

ولكنه عاد وهو كله شغف لهذه الرحلة، ينظر وعيونه تتحدث عما كمن في قلبه،

وأنا أنظر إليه، وأريد أن أسأله :ماذا بينك وبين أبي؟

ثم صرفت النظر عنه وقلت لنفسي" لنرجع بالنصر ثم بعد ذلك أكشف لغزهما"

*

ذهبنا إلى مكانٍ قريب من وكر هؤلاء السحرة،

ونصبنا خيامنا، ووضعنا أسلحتنا، وبدأت بتجهيز عدتنا؛ لنستعد للمواجهة المباشرة، وفي تلك الأثناء اقترحت ليالي أن نقوم بوضع المزيد من الأسلحة في مناطق مختلفة بحيث أثناء الهجوم يتسلل واحد منا، ويقوم بضرب العدو من مناطق عدة فيختل توازنه، ووافقنا على هذا الاقتراح، وتم وضع المزيد من الأسلحة والإسعافات في مناطق بعيدة عن خيامنا.


*وهُنا نادىٰ أحمد مُبتسمًا وقال:_ بالله لا تنسوا أن تضعوا الطعام في تلك المناطق، فأنا لا أصبر على الجوع* 

فضحكنا لقوله سويًا وقلنا:_

 لن ننسىٰ بإذن الله يا أحمد، ولكن تحلى بالصبر أيها الشجاع، إننا نحارب الآن.

فقال أحمد:_ حسنًا حسنًا أيها الأبطال، ولكن الجوع كافر. 


*فضحكت لقوله بصوتٍ عالٍ، فشعرت العصابة بأن هُنا متطفل قام بالاقتراب منهم*


فأشارت نغم والتي كانت تنبهنا بأن نلتزم الصمت، وهُنا بدأ قلبي يدق؛ خوفًا من حدوث أي مناوشة بيننا ونحن مُتعبين من سفرنا وطرقه الوعرة. 


*قامت العصابة بالنظر يمينًا ويسارًا، ولكن لحسن الحظ أنهم لم يدركوا وجودنا، لقد أعماهم الله عنا، وصرف شرهم.



قمنا بالاستراحة قليلًا ثم بدأنا بسن هجوم مركز من الجهات الأربع؛ لشل حركة السحرة، وأمرت فريقي بلبس القناع؛ لكي أقوم برش مسحوق مخدر في الجو يقوم بالسيطرة على حركتهم، وفقد جزء من تركيزهم يجعلهم يتخبطون كأنهم مغشي عليهم.


 ودارت معركة شرسة بيننا، وقام أحمد ونغم بضربهم بعدة من السهام، وقام خالد بإطلاق قذائف عدة، وليالي قامت بالاقتراب والتسلل إلى عشهم، وتخريب عدد من الطلاميس التي تستخدم في سحرهم، وسرقة عدد أخر؛ لكي تساعدنا في فك شفرة سيطرتهم على واحتنا، وقمت أنا بمهاجمة رئيسهم، فأصابني بسهم قاتل مسموم شل من حركتي، وأخفى صوتي، لكن لحسن حظي رآني خالد، فأتى مسرعًا نحوي لا يخشى أصابته، وقال ماذا بكِ يا ملاكِي؟ 

هل تسمعينني؟ 

وأنا لا أستطيع أن أجاوبه وأقاوم إغلاق عيني.


خالد:_ ملاكِي أنا هُنا، لا، لن أترككِ ترحلين عني، لقد وعدت أباكِ بأن سلامتكِ أمانة في رقبتي، وقلت له إذا عُدت منتصرًا، سأحظى بكِ عروسًا تلك مكافاتي. 


*ملاك تسمع خالد وهي تلفظ أنفاسها مغادرة عالمها، وهي تسمع من خالد بأن حلمها كاد يصبح حقيقة، فهي من صغرها كانت تحلم بشاب مثل خالد شجاع، ذكي، كريم رغم فقره،

من خِيرة شباب الواحة، تنظر ودموعها تنهمر منها، وهي لا تقدر على لفظ ما كان يكمن في قلبها، تغادر ويغادر معها حُبهما العالق بجدران قلبها المحطم الآن، أسند خالد جبهته إلى جبهتها وقال لها بصوتٍ خافت:_ لا أُخفي عليكِ سرًا يا ملاكي بأن ابتسامتكِ كانت دائمًا أعظم انتصاراتي، وكل حربٍ كنت أخوضها معكِ كنت أخوضها لأجل وجودي معكِ، استيقظي، انهضي لا تستسلمي، إياكِ أن تتركيني وترحلي. 

وهُنا اندمجت دموعهما سويًا، وهو يهزها ويهزها، ولكن قد فات الأوان*


*أدركت ليالي خطورة موقف ملاك، وانهيار خالد، واكتشفت حب خالد لملاك، فذهبت مسرعة محضرة ماء الحياة الذي أحضرته ملاك وهو يقوم بالدعاء لعلها تقاوم سحر تلك الأسهم القاتلة* 


أخذ خالد يسقي ملاك الماء، وهو يدعي الله بأن يسلمها من كل سوء، وتعود ملاكه للحياة مرة أخرى، وبالفعل ما هي إلا دقائق معدودة قضاها خالد على أحر من الجمر، منتظرًا أن تفتح عيونها، وها هي تفتح تلك العيون المشعة بالحب والأمل من جديد، لتبعث الأمل بخالد والفريق، ليكمل مواجهة تلك القوى الغاشمة، وتطهير الواحة من بطشهم.


*ابتسم خالد وقام باحتضانها، وقال لها: لا تتركيني مجددًا. 

وهُنا قامت ليالي وأحمد ونغم بالتصفيق والتهليل، وفرحوا وحمدوا الله على سلامتها* 


فضحكت ملاك وقالت: لا تتشتتوا عن هدفكم بل واصلوا ضرب العدو في مقتل؛ حتى نفوز بالنصر المبين. 

فقال خالد مشاغبًا:_ هذه هي ملاكِي، القائد الصارم.

فنظرت له متذكرة خوفه عليها، وحبه لها، وماذا قال لأبيها، فقالت:

لا تحد عن الطريق، ولا تسر للمجهول، اثبت، وتقدم، وأنا معك أساندك، فيما تفعل. 

وتبسمت، وانطلقت تكمل محاربتها، وتسجن هجومها، في ذهول من السحرة وقائدهم بأنها كيف عادت من الموت.

دُهش خالد لكلماتها، وأدرك أنها كانت تسمعه، وفهم من عباراتها بأنها تبادله الشعور، فتحمس لإكمال الحرب والنصر فيه؛ ليفوز قلبه هو الآخر بحبٍ يسكن الأعماق منذ الأزل.

  

*وبدأ الفريق بشن الهجوم من جهات مختلفة كما أمرتهم ليالي، واستخدموا كل حيلهم، وقضوا على قائد السحرة، وهدموا وكرهم عليهم، واستخدمت نغم القذائف الثقيلة بكثرة، فعمَ الضباب في المنطقة، فصمت الجميع ليهدأ ذلك الضباب، ويقوموا باستكشاف المنطقة، وبعد وقتٍ قصير قام الفريق بتمشيط المكان، وتأكدوا بأنهم قضوا على السحرة وقائدهم، وتخلصوا من قوى الشر المسيطر على جمال واحتهم، ففرحوا كثيرًا، وقاموا بتمشيط المكان أكثر، وجمعوا جثث هؤلاء السحرة، وأخذوها لقائد الواحة، وقامت الأفراح، ونصبت الولائم وعلقوا الزينة، وفرح الأطفال والنساء؛ لزوال ذلك الخطر الغاشم، ورجوع الواحة لهدوءها وسحرها الخلاب، ورجعت الطيور تحلق فوق الواحة من جديد، وتغرد العصافير، وتقدم خالد في ليلة النصر العظيم بطلب الزواج، ووافق القائد، وتم الزواج، وخرج الزوجان مسرعين نحو مكان المعركة بعدما أصبحت كالجنة، تسكنها الطيور المحلقة، ويكسو جبالها ألوان تشهد بأنه هُنا تم خوض معركة شرسة، قامت ملاك بالسير على الرمل؛ لتترك أثرها كما تركت في تلك الحرب أثرها، لتقول لكل الكون، نعم أنا فتاة، وأستطيع أن أترك أثرًا مثلي مثل أي شاب، نعم أستطيع كفتاة أن أقول: أنا هُنا لديَّ رأيي في جميع القضايا التي تمسنا جميعًا، وأستطيع أن أترك بصمتي وأثري المثمر، أستطيع أن أُحلق كالطيور المُحلقة، وأستطيع أن أكون بشموخ الجبال والسحاب، لا شيء ينقصني، قد وهبني الرحمن عقلًا مثلكم، سارت ملاك تجري كالمجنونة، وتترك أثرها بكل مكان في واحة تشهد على ثباتها في معركة لم تكن سهلة، معركة أثبتت فيها نفسها، واكتشفت فيها حبها، وقفت شامخة أمام قوى الظلام موقف تلك الجبال بجوارها، وأزاحت الظلام عن قريتها، كما أزاحت الظلام عن قلب خالد بالزواج منه، وفي أثناء جريها هذا ظلت تنادي على خالد بأعلى صوت وتقول له:

" أُحبك خالد، وتشهد تلك الجبال ميلاد ذلك الحب"


وظلت ترددها كثيرًا.


"فجأة ناداني صوت والدتي وهي تقول لي: من خالد هذا يا أسماء؟ 

استيقظي يا فتاتي من نومكِ، ما زالت نايمة واليوم يوم رحلتنا، سوف نتأخر؛ بسببك"

أسماء:_ أين أنا؟

 هل أنا أسماء أم ملاك؟ 

قالت أمي:_ لا حول ولا قوة إلا بالله، 

قلت لكِ كُفي عن تلك الأفلام المرعبة؛ سوف تفقدين عقلكِ. 


فضحكت لها، وقلت:_ يا له من حلمٍ جميلٍ يا أمي

وتذكرت ما قالته في ذلك الحلم

"نجهل الطريق وحينها تأخذنا الحياة لطرقٍ لا تهواها أقدامنا، فنتوه معها، ونحيد عن هدفنا، وقد نكون على الطريق المستقيم دون دراية منا، فإنها أقدار كُتبت، وجفت الصحف، ورفع القلم، وما علينا سوىٰ السعي والدعاء؛ لعلنا في يومٍ ما نصل لجهة ما تكمن فيها الروح بحبٍ وسلام، لعلنا بعد هذا الهروب من اللاشيء وهذا الضباب نجد ما يُهدئ من أرواحنا المتعبة، ونترك أثرنا، في طريقٍ يصعب على غيرنا حذوه"


*وعدت من شرودي على صوت أمي*



أمي مبتسمة :__ ومن خالد هذا؟

 الجيران كادت تسمع صوتكِ. 


قلت لها:_ فارس أحلامي.


 وضحتك وضحكت أمي، ليت الجميع مثل أمي. 


 أسماء إبراهيم

قصة قصيرة

إسلام إيهاب

أكتُب ما لا أبوح بِه؛ لطالما كان قَلمي خير جَليس. _ إسلام إيهاب

إرسال تعليق

أحدث أقدم